سورة الروم - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الروم)


        


قلت: {وليذيقكم}: عطف على {مبشرات}؛ على المعنى، كأنه قيل: لتبشركم وليذيقكم، أو: على محذوف، أي: ليغيثكم وليذيقكم.
يقول الحق جل جلاله: {ومن آياته} الدالة على كمال قدرته: {أن يُرسلَ الرياحَ}، وهي الجَنُوبُ، والصَّبا، والشمال والدَّبُورُ، فالثلاث: رياح الرحمة، والدبور: ريحُ العذاب، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: «اللهم اجعلها رياحاً، ولا تجعلها ريحاً» وقال: «نُصرْتُ بالصِّبَا، وأُهْلِكتَ عادٌ بالدَّبُورُ»، وهي الريح العقيم. وقرأ ابن كثير والأَخَوان: بالإفراد، على إرادة الجنس.
ثم ذكر فوائد إرسالها بقوله: {مبشرات} أي: أرسلها بالبشارة بالغيب {وليُذِيقَكُم من رحمته}؛ ولإذاقة الرحمة، وهي نزول المطر، وحصول الخصب الذي يتبعه، والرّوح الذي مع هبوب الريح، وزكاء الأرض، أي: ربوها وزيادتها بالنبات، وغير ذلك من منافع الرياح والأمطار. قال الحسن: لو أمسك الله عن أهل الأرض الريح ساعة لَمَاتُوا؛ غَمَّا.
{ولِتجريَ الفلكُ} في البحر عند هبوبها {بأمره}؛ بتدبيره، أو بتكوينه، لقوله: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً...} [يس: 82] الآية. قيل: إنما زاد بأمره؛ لأنها قد تهب غير مُوَاتِيَةٍ، فتُغرق، وهي عند أمره أيضاً، فهي على حسب أمره، ولأن الإسناد وقع للفلك؛ مجازاً، فأخبر أنه بأمره، {ولتبتغوا من فضله}، يريد به تجارة البحر، {ولعلكم تشكرون} هذه النعم؛ فيزيدكم من فضله.
الإشارة: ومن آياتِ فَتْحِهِ على أوليائه: أن يرسل رياح الهداية أولاً، ثم رياح التأييد، ثم رياح الواردات، تحمل هدايا التَّعَرُّفَاتِ، مبشرات بالفتح الكبير، والتمكين في شهود العلي الكبير، وليذيقكم من رحمته، وهي حلاوة معرفته، ولتجريَ سفن الأفكار في ميادين بحار توحيده، ولتبتغوا من فضله، هو الترقي في الكشوفات والعلوم والأسرار، أبداً سرمداً، ولعلكم تشكرون؛ بالقيام برسوم الشريعة وآداب العبودية.
قال القشيري: يرسل رياحَ الرجاءِ على قلوب العُبَّاد، فتكنس قلوبهم من غبار الحسد وغُثَاء النفس، ثم يرسل عليها أمطار التوفيق، فتحملهم إلى بساط الجُهْدِ، وتكرمهم بقوى النشاط. ويرسل رياحَ البَسْطِ على أرواح الأولياء فتطهرها من وَحْشَةِ القبض، وتنشر فيه لذاذات الوصال، ويرسل رياحَ التوحيد فتهب على أسرار الأصفياء، فتطهرها من آثار الأغيار، وتبشرها بدوام الوصال، فذلك ارتياحٌ به، ولكن بعد اجتناحٍ عنك. اهـ. أي: بعد ذهابٍ عنك وزوال. والله تعالى أعلم.


قلت: {حقاً}: خبر {كان}، و{نصر}: اسمها. أو: {حقاً}: خبر {كان}، واسمها: ضمير الانتقام، فيوقف عليه، و{علينا نصر}: مبتدأ وخبر.
يقول الحق جل جلاله: {ولقد أرسلنا مِن قبلك رسلاً إلى قومهم فجاءهم بالبينات}؛ بالمعجزات البينات الواضحات، فكذبوهم؛ {فانتقمنا من الذين أجرموا} بالتدمير، {وكان حقاً علينا نصرُ المؤمنين} أي: وكان نصر المؤمنين، بإنجائهم من العذاب، حقاً واجباً علينا بإنجاز وعدنا؛ إحساناً. أو: وكان الانتقام من المجرمين حقاً لا شك فيه، ثم علينا، من جهة الإحسان، نصر المؤمنين. قال البيضاوي: فيه إشعار بأن الانتقام لهم- أي: من عدوهم- إظهار لكرامتهم، حيث جعلهم مستحقين على الله أن ينصرهم. وعنه. صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ يُردّ عن عِرْضِ أَخِيه، إلا كان حقاً على الله أن يردّ عنْه نارَ جهنم»، ثم تلا الآية. أي: {وكان حقاً علينا..} إلخ. الإشارة: هكذا جرت سُنَّة الله تعالى، مع خواصه، أن ينتقم ممن آذاهم، ولو بعد حين. وقد يكون الانتقام باطناً، بنقص الإيمان وقساوة القلب، وهو أقبح. قال القشيري: فانتقمنا من الذين أجرموا، وأخذناهم من حيث لا يحتسبوا، وشَوَّشْنا عليهم ما أمَّلوا؛ ونقصنا عليهم ما استطابوا وتَنَعَّموا. {وكان حقاً علينا نصرُ المؤمنين}. وَطِئَهُمْ أَعْدَاؤُهُمْ بأعقابهم فلم يلبثوا إلا يسيراً حتى رَقَّيْنَاهُمْ فوق رقابهم، وخرَّبنا أوطانهم، وهدَّمنا بنيانهم، وأخمدنا نيرانهم، وعَطَّلْنا عليهم ديارَهم، ومحونا، بقهْر التدمير، آثارَهم، فظَلتْ شموسُهم كاسفة، ومكيدةُ قهْرنا لهم، بأجمعهم، خاسفة. اهـ.


يقول الحق جل جلاله: {اللهُ الذي يُرسل الرياحَ} الأربع. وقرأ المكي: بالإفراد. {فتُثير} أي: تزعج {سحاباً فيبسُطُه في السماء} أي: يجعله منبسطاً، متصلاً بعضه ببعض في سَمت السماء، كقوله: {وَفَرْعُهَا فِي السمآء} [إبراهيم: 24]، أي: جهته. فيبسطها في الجو {كيف يشاء}؛ سائراً أو واقفاً، مطبقاً وغير مطبق. من ناحية الشمال أو الجنوب، أو الدََّبُورِ، أو الصَّبَا، {ويجعله كِسَفا} أي: قطعاً متفرقة. والحاصل: أنه تارة يبسطه متصلاً مطبقاً، وتارة يجعله قطعاً متفرقة، على مشيئته وحكمته. {فترى الوَدْقَ}؛ المطر {يَخْرجُ من خِلاله}؛ وسطه.
{فإِذا أصاب به}؛ بالودق {من يشاء من عباده}، يريد إِصابةَ بلادهم وأراضيهم {إذا هم يستبشرون}؛ يفرحون بالخصب، {وإن كانوا من قبل أن يُنَزَّل عليهم} المطر {من قبله لمُبلسينَ}؛ آيسين، وكرر {من قبله}؛ للتوكيد، وفائدته: الإعلام بسرعة تقلب قلوب الناس من القنوط إلى الاستبشار، أو: على أن عهدهم بالمطر قد تطاول؛ فاستحكم يأسُهُم، فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم بذلك.
{فانظرْ إلى آثار رحمةِ الله} أي: المطر {كيف يُحيي الأرضَ} بالنبات وأنواع الثمار {بعد موتها}؛ يبسها {إن ذلك} أي: القادر عليه {لمحيي الموتى}؛ فكما أحيا الأرض بعد يبسها يحيي الأجساد بعد رميمها، {وهو على كل شيءٍ قدير} وهذا من جمل مقدوراته تعالى.
الإشارة: الله الذي يرسل رياح الواردات الإلهية، فتنزعج سحاب الآثارعن عين الذات العلية، فتبقى شمس العرفان، ليس دونها سحاب، فيبسطه في سماء القلوب كيف يشاء، فيقع الاحتجاب لبعضها، ويصرفه عمن يشاء فيقع التجلي والظهور، ويجعله كسفاً لأهل الاستشراف، فتارة ينجلي عنهم سحاب الآثار، فيشاهدون الأنوار، وتارة تغطيهم سُحب الآثار، فيشاهدون الأغيار، فترى مَطَرَ خَمْرَةِ الفناءِ تخرج من خلاله، فإذا أصاب به من يشاء من عباده، إذا هم يستبشرون بأنوار معرفته وأسرار ذاته. وقد كانوا قبل ذلك مبلسين، آيسين، حين كانت نفوسهم غالبةً عليهم. فانظر كيف أحيا أرض قلوبهم بعد موتها بالجهل والغفلة. وهذا مثال من كان منهمكاً ثم سقط على شيخ ذي خمرة أزلية، فسقاه حتى حَيِيَ بمعرفة الله.
قال القشيري: الله الذي يرسل رياح عَطْفِه وجُودِه، مبشراتٍ بجوده ووَصْله، ثم يُمْطِر جودَ غيثِه على أسراره، ويطوي بساطَ الحشمة عن مناجاة قُرْبِه، وبضرب قبابَ الهيبة بمشاهد كَشْفِه، وينشر عليهم أزهار أُنْسِه، ثم يتجلَّى لهم بحقائق قُدْسِه، ويسقيهم بيده شراب حُبِّه. وبعد ما محاهم عن أوصافهم؛ أصحاهم، لا بهم، ولكنْ بِنَفْسه. والعبارات عن ذلك خُرْسٌ، والإشارات، دونه، طُمْسٌ.
وقال في قوله تعالى: {فانظر إلى آثار رحمة الله...} الآية: يحيي الأرض بأزهارها وأنوارها عند مجيء أمطارها، ليُخرجَ زَرْعَها وثمارَها، ويحي النفوس بعد تَفْرِيقها، ويوفقه للخيرات بعد فترتها، فتعمر أوطان الوفاق بصدق إقدامهم وتندفع البلايا عن الأنام ببركات أيامهم وتحيي القلوبُ بعد غفلتها بأنواع المحاضرات فتعود إلى استدامة الذكر بحُسْنِ المراعاة ويهتدي بأنوار أهلها أهلُ العصر من أهل الإرادات ويحيي الأرواح بعد حجْبتَها بأنوار المشاهدات فتطلع شموسُها من بُرْجِ السعادة ويتصل بمشامِّ أسرار الكافة نسيمُ ما يُفيض عليهم من الزيادات فلا يبقى صاحبُ نَفَسٍ إلا حَظِيَ منه بنصيب ويُحْيي الأسرارَ بأنوار المواجهات.
وما كان لها إلا وَقْفَةٌ في بعض الحالات فتنتفي بالكلية آثارُ الغَيْرِيَّةِ ولا يَبْقَى في الديار ديَّار ولا من سكانها آثار وسَطَواتُ الحقائق لا تثبت لها ذَرَّةٌ من صفات الخلائق؛ هنالك الولاية لله الحق.. انتهى المراد منه مع زيادة بيان.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8